أنظمة " الربيع " العربي تقف على حافة الهاوية ، وقد تقفز طواعية الى أودية الفشل ، وذلك ما يحاول حمادي الجبالي ، رئيس الوزراء التونسي تجنبه ، بالدعوة الى حكومة خبراء ، تعد لانتخابات تحت إشراف دولي ، وتعيد الى الشعب التونسي ثقته بثورته ، وتطمئن المانحين خصوصا ، والمجتمع الدولي عامة ، على جدية ونزاهة المسار الديموقراطي لتونس المستقبل .
حالة تونس ليست مختلفة ، عما يجري في العواصم الاخرى ، لثورات " الربيع " العربي ، لكن عناد الاحزاب والقوى الحاكمة او المتحكمة ، على مواقفها الراهنة ، لن يزيد الامور الا تدهورا وسوءا ، يدفع بالاوضاع الاقتصادية والاجتماعية ، الى تعقيدات خطيرة ، ناهيك عن احتدام الصراع السياسي الداخلي ، بين مختلف التيارات والاتجاهات ، الحاضرة في المشهد الوطني ، لكل دولة على حدة .
رئيس وزراء تونس يتفوق على اقرانه الاخرين ، بانه يحاول استباق المزيد من التدهور ، ويحاول منع الانهيار الداخلي ، خاصة وهو يلمس بحسه السياسي ومسؤولياته الحكومية ، احتمالات تطور الأوضاع على نحو خطير ، وقد أخذ الارهاب السياسي لنفسه ، مكانا مؤثرا وفاعلا ، في المشهد السياسي التونسي ، بعد جريمة اغتيال الزعيم اليساري البارز ، شكري بلعيد ، " رفيق " ثورة الياسمين ، اولى ثورات العرب .
الشعوب في مصر وتونس واليمن ، استوعبت صدمة التغير ، اثر الانهيار المفاجئ والسريع ، للانظمة الحاكمة ، لكن " السكرة " انتهت ، وجاءت " الفكرة " ، فتلك الشعوب التي هبت للاطاحة بالنظم القاسية المستبدة ، تبدي اليوم مقاومة كبيرة ، تتسع قاعدتها الشعبية كل يوم ، في مواجهة محاولات استبدال هيمنة الشخص الواحد ، او الحزب الواحد ، بالحزب الحاكم ، او الجماعة الحاكمة ، وتلك المقاومة ، ترجمة يومية عملية ، لرفض محاولات استبدال دكتاتوريات ، حكمت الناس طويلا ، بنظام عقائدي شمولي ، يعتقد انه بامر الله يحكم ، فمن يجرؤ غداً ، على تحدي امر الله ، وهل يمكن الحديث بعد ذلك عن العملية الديموقراطية ؟! .
لكن مؤثرات الصراع ، لم تعد محصورة داخل حدود الدولة الوطنية ، بحكم التفاعل الموضوعي مع المحيط الاقليمي والدولي ، والتفاعل مع الخارج ، ينتج أسلحة مؤثرة ، في الصراع الداخلي نفسه ، وتلك الاسلحة باتت حاضرة ومساهمة في الصراع ، واولى بوادرها الواضحة ، هو قرار دولي حازم يطبخ الان ، لربط حزمة المساعدات والقروض الدولية ، بتقدم ملحوظ في " العملية الديموقراطية " والشراكة السياسية ، فلا احد في عالم اليوم ، يرغب ان يكون متهما غداً ، بدعم أنظمة حكم سياسية ، انتهت الى التفرد والاستبداد الداخلي ، او على الاقل ، العالم لا يرغب في ذلك ظاهريا وان من باب النفاق .
الاعلام الدولي يمتلئ اليوم ، بتقارير وأنباء تحذر حكومات الغرب ، من " الانزلاق " او الاستعجال في بناء وترسيخ علاقات دافئة ، مع نظم لا تبدي استعدادا ، للشراكة مع قوى المجتمع الاخرى ، ووسائل الاعلام الدولية ، تعكس اليوم صورة متشائمة ، الامر الذي يعقد مهمة قادة السياسة الدولية ، و " يربط " يد صانع القرار في تمرير وإجازة ، أية مساعدات او قروض سخية ، مما سيزيد الأوضاع الداخلية لدول الربيع تدهورا وارتباكا .
قد نسمع شعارات عاطفية او غاضبة ، تحسم بعدم حاجة دول الربيع ، الى اي عون مالي واقتصادي خارجي ، وقد سبق لنا وسمعنا مثل تلك الشعارات ، قبيل وبعد سقوط الأنظمة ، لكن سرعان ما بدد واقع ، أية قيمة او عقلانية لمثل تلك الشعارات ، اما لانها كانت تضليلا بهدف التعبئة السياسية والحزبية ، او لانها كانت جهلا بالحقائق والأرقام ، واستهتارا بالمسؤوليات والواجبات ، حتى ان بعض " الدعاة " اعتقدوا عن طيبة قلب وعفوية ، ووسط تهليل وتكبير بسطاء الناس من المؤمنيين ، بقدرتهم على جمع ما يعوض مصر مثلا ، عن كل الدعم الامريكي ، خلال ساعة واحدة عبر شاشات التلفزيون .
الانكفاء عن حافة الهاوية المحدقة ليس أمرا مستحيلا ، لكنه يزداد صعوبة مع كل يوم يمر ، والفتق الاجتماعي نفسه ، يتسع في كل ساعة ودقيقة ، وليس من المحال ان نصل قريبا ، الى لحظة حرجة ، حيث تقرر القوى المتحكمة بأنظمة الربيع ، العودة الى الاعتدال والتسويات ، الى الوسائل المعروفة واللغة المفهومة ، لتكتشف انها قد تجاوزت نقطة اللاعودة ، وان القطار قد غادر المحطة ، ويصبح المطلوب اكثر بكثير ، من القليل الذي كان سيرضي ، القليل الذي كان من شانه ، تهدئة الشعوب وطمأنة العالم .
يجوز ان القوى المتحكمة ، وبعد كل ما حصل ، تمتلك اليوم القرار والإرادة ، على اعادة ترتيب أوراقها الوطنية والدولية ، لانها باتت تدرك استحالة استعادة الاستقرار ، والبقاء على قيد الحياة اقتصاديا ، في ظل استمرار الازمات الراهنة ، حتى وان كان ذلك خلافا لرغباتها وقناعاتها الفكرية ، لكن الجواب الكبير يبقى غامضا وغائبا ، فهل لدى تلك القوى اليوم ، القدرة على اعادة الترتيب الضرورية تلك ، وهل إرادتها وقرارها لوحدها يكفي ، ام ان نهجها ونزوعها السلطوي ، أدى الى إفراز قوى جديدة ، محافظة ، مانعة ، تتمركز في اقصى المشهد ، تعيق التحول الى الاعتدال ، وتستعد للانقضاض على ما تبقى من أسس التعايش والشراكة ، وذلك هو التحدي المبهم اليوم ، وقد يكون ثمنه في ارتفاع كلما تأخر التحول .