Menu
12:19محكمة الاحتلال ترفض الإفراج عن الأخرس
12:13المالكي : دعوة الرئيس بمثابة المحاولة الاخيرة لإثبات التزامنا بالسلام
12:10الاردن يعيد فتح المعابر مع فلسطين بعد اغلاق استمر لأشهر
12:07الخارطة الوبائية لـ"كورونا" بالقطاع
12:05"إسرائيل": التطبيع مع السودان ضربة لحماس وايران
12:02"اسرائيل " علينا الاستعداد لما بعد ترامب
12:01الاحتلال يقتحم البيرة ويخطر بإخلاء مقر مركزية الإسعاف والطوارئ
11:59"الاقتصاد" بغزة تجتمع بأصحاب شركات مستوردي فرش الغاز
11:51«الديمقراطية»: سيقف قادة الاحتلال خلف قضبان العدالة الدولية
11:51الوعى الاستثنائى فى فكر  د.فتحى الشقاقى
11:47قيادي بحماس يتحدث عن "أهمية رسالة السنوار لرموز المجتمع"
11:45مستوطنون يقتحمون قبر يوسف بنابلس
11:40مقتل سيدة ورجل بالرصاص في باقة الغربية واللد
11:28الإمارات تسرق "خمر الجولان" السوري وتنصر "إسرائيل" ضد BDS
11:26صحيفة: تفاهمات بين القاهرة وحماس حول آلية جديدة لعمل معبر رفح

أسر المألوف..احمد ابو رتيمة

إذا دخلت مدينةً لأول مرة فسيبهرك بجمالها وستدهشك آثارها وقصورها وشوارعها ومبانيها العملاقة لكن إن أطلت الإقامة فيها أسابيع أو شهوراً فسوف تتلاشى هذه الدهشة ويصبح ما كان مثيراً رائعاً بالأمس عادياً ومملاً اليوم..

في الجانب السلبي نذكر مثال سوريا ففي بداية الثورة كان خبر مقتل عشرين شخصاً صادماً ومثيراً لمشاعر الحزن والغضب لكن مع طول أمد الثورة تعايش الناس مع أخبار القتل المروعة حتى صار خبر مقتل مائة وخمسين إنساناً كل يوم مجرد رقم ربما يسمعه أحدنا فيكتفي بالحوقلة والاسترجاع إن كان لا يزال فيه بقية من خير ثم يغير إلى قناة أخرى واهتمام آخر..

نفس الحقيقة تتكرر في كافة جوانب حياتنا فحين بات الناس ليلتهم الأولى بعد انتهاء الحرب استشعروا أهمية نعمة الأمن التي افتقدوها طيلة الليالي السابقة لكن بعد بضع ليال من إلف الهدوء صار هذا الأمن شيئاً عادياً لا يشعرون بقيمته لأنهم نسوا تلك اللحظات العصيبة التي مرت بهم، وحين يتعافى إنسان من مرض كان يحرمه الطعام فإنه سيتلذذ بشربة الماء وكسرة الخبز لكن بعد أن يطول به أمد المعافاة فسيتناول أشهى الطعام والشراب دون أن يتذوق لذتها بعد أن طال إلفه لها..

ينبهنا الله تعالى إلى خطورة مألوفيتنا للنعم في نسيانها فيقول "وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون"..إننا نجأر الله وقت الضر لأننا نتذكر في تلك الحالة أهمية النعمة بعد أن فقدناها، لكننا لا ننتبه ونحن نتنعم بالعافية والصحة إلى قيمة هذه النعم وأنها أيضاً من عند الله لذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم "نعمتان مغبون بهما كثير من الناس الصحة والفراغ"..إن الناس لا يشعرون بأهمية الصحة والفراغ إلا إذا فقدوهما..

 إن طول معايشتنا للأشياء يفقدنا الإثارة والدهشة تجاهها ويحولها إلى أشياء روتينية مملة..

هناك معادلة قرآنية في غاية الروعة..يقول الله عز وجل "طال عليهم الأمد فقست قلوبهم"..

إن طول الأمد يقتل في قلب الإنسان روح التفاعل والاستثارة فيتعامل بجمود مع الأشياء من حوله وبذلك يقسو قلبه تجاهها فلا تؤثر فيه..

وهناك آيات أخرى تدور حول نفس المعنى فتبين الدور السلبي لطول العمر في إماتة القلب وقتل الإثارة فيه منها قوله تعالى: "ولكنا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر"، وقوله تعالى: "ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ"..في الآية الأخيرة يبعث الله الضراء على عباده حتى تثير فيهم معنى الإيمان وتلجئهم للتضرع إليه، لكن تكرار هذه الأحوال على العباد يقتل فيهم روح التفاعل معها ويقسي قلوبهم فهم لا يرون منها أكثر من جولات عادية للحياة التي تشتد تارةً وتنبسط تارةً كما كانت مع آبائهم دون أن يكون لذلك معنى روحي بالنسبة إليهم..

هل هناك أشد تأثيراً في نفس المرء من مشهد الموت؟؟ لكن حين يعمل إنسان في مهنة يشاهد فيها الموتى كل يوم كأن يكون طبيباً أو حفار قبور فسيتحول الموت بالنسبة إليه إلى مجرد روتين لا يستثير فيه أي معنى روحي.

المشكلة ليست في أن هذه الأشياء صارت مملةً في ذاتها فجانب الإثارة سيظل موجوداً لا يقلل من أهميته تطاول العمر، لكن المشكلة هي في موت الروح تجاهها فتتوقف عن التفاعل ويقسو القلب..

التحدي هو أن يجدد الإنسان روحه وأن يقاوم أسر المألوف حتى لا يقسو قلبه إنما يظل حياً متفاعلاً يستشعر أهمية النعم التي أسبغها الله عليه متلذذاً بكل لحظة في حياته وبذلك تتضاعف سعادته بتذكره الدائم للنعم التي يرفل فيها..

يقال في تعريف الفيلسوف إنه ذلك الإنسان الذي يتحلى بروح طفولية دائمة، فالطفل حين تتفتح عيناه على الدنيا يكون مدهوشاً بالأشياء التي يراها الكبار عاديةً لأنها جديدة له فيتميز بحس مرهف ويتساءل عن كل شيء، لكن بعد أن يكبر وتطول معايشته لهذه الأشياء  وينهره الكبار عن الأسئلة تخمد فيه هذه الروح فيرى ذات الأشياء التي كانت تبهجه في طفولته رتيبةً مملة..

القليلون الذين يحافظون على التجدد الروحي الدائم ويقاومون أسر المألوف فتظل نظرتهم إلى الأشياء العادية بأنها جديدة مثيرة تستوجب التفكر الدائم هم الذين يمكنهم فهم الطبيعة والانسجام معها فتخشع قلوبهم ويبدعون فتتقدم بهم مسيرة البشرية.

إن إسحاق نيوتن على سبيل المثال لا الحصر لم يكن ليكتشف قانون الجاذبية لولا تحرره من جاذبية المألوف، فرأى أبسط الأشياء جديرةً بالتساؤل والتعجب وهو لماذا تسقط الأشياء نحو الأرض ولا ترتفع صوب السماء، فقادته هذه الروح المستثارة نحو كل شيء إلى اكتشاف عظيم ساهم في تقدم البشرية..

لا يوجد أشياء عادية، تفسير الظواهر بأنها شيء عادي، طبيعي، وجدنا عليه آباؤنا، هو حيلة العاجزين ميتي القلوب..كل شيء يستحق التساؤل، كل ما في الكون جديد ومثير..حين نجدد إيمان قلوبنا فسنرى الأشياء من حوله جديدةً وحينها سنكتشف وجه العظمة في كل ما يحيط بنا "قل انظروا ماذا في السموات والأرض من آيات"..

يقول الشاعر الرومانسي الفرنسي شاتو بريان "ليس أي معجز معجزاً بأكثر من العادي"..إن حديث طفل في المهد لا يزيد إعجازاً عن نمو الطفل الطبيعي، وإن إرسال صاعقة من السماء لإهلاك الدول الظالمة ليس بأكثر إعجازاً من السنن الاجتماعية الطبيعية في صعود الحضارات وأفولها عبر التدافع والتدرج..

هذه هي روح الإيمان والعلم يلتقيان في نقطة واحدة وهي النظر إلى العادي بأنه آيات بينات تستحق التفكر والتدبر.

لا غرابة أن يلفت القرآن أنظارنا إلى أكثر الظواهر قرباً والتصاقاً منا حتى أنها لشدة قربها ماتت إثارتنا تجاهها، فأكثر حديث القرآن عن الآيات التي تقود إلى الإيمان لا يأتي بمعنى المعجزات كما كانت الأقوام تطلب من أنبيائها وكما لا يزال هناك من يفهمها على هذا النحو حتى اليوم، إنما يتحدث القرآن عن الآيات بمعنى الظواهر الطبيعية المألوفة مثل خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، وماذا لو جعل الله الليل سرمداً أو النهار سرمداً، واختلاف الألسن وقانون الطفو على الماء "والفلك التي تجري في البحر" وإنبات الزرع، والجبال الأوتاد والشمس والقمر، والنمو الطبيعي للإنسان، وموت الحضارات.. كل هذه آيات بينات تقود إلى الإيمان لو أننا تحررنا من أسر المألوف لكن طول عهدنا بها قسّى قلوبنا فيعيد القرآن تحفيز عقولنا للخروج من حالة الجمود وإعادة اكتشاف وجه الروعة فيها..

والحمد لله رب العالمين..