لم تكشف الحرب على غزة النقاب فقط عن الوجه القبيح والحجم الحقيقي للأنظمة العربية التي بدت أنظمة كسيحة ومنبطحة، بل طال ذلك، أيضاً، الإعلام، أو ما يسمى السلطة الرابعة، التي عمل النظام على استخدامها في تخدير الشعوب أمام المشاهد الدموية في الفصل الأخير من أسطورة العزة والكرامة العربية. فمع ارتفاع وتيرة عمل آلة القتل الإسرائيلية، التي تعمل بدفع رباعي عربي، وفي ظل الأزمات الداخلية لأنظمةٍ تفتقر للأمن والاستقرار والثقة بالنفس، كان لابد من إيجاد مناخ سياسي قائم على "نظرية المؤامرة"، والتي يدّعي أصحابها أن أطرافاً إقليمية تسعى إلى الزج بهم في متاهات مظلمة، ومعادلات وحروب خاسرة، وكان للإعلام المصري، هامش كبير في فترة الحرب على غزة، لتشويه صورة المقاومة الفلسطينية، والعمل على وأدها في وجدان الشعوب العربية عامة، والشعب المصري خصوصاً، تجنباً لأية جبهة داخلية جديدة، من شأنها أن تشكل أداة ضغط على هذه الأنظمة الهشة، وما لديها من مشكلات اقتصادية وأمنية. لذلك، خرج علينا ردّاحون مأجورون لا يمتون لأبجديات المهنة الإعلامية بصلة، يباركون ما تقوم به إسرائيل في غزة من جرائم حرب وإبادة جماعية، ويرفعون القبعة لـجيش الاحتلال الإسرائيلي، وهو جيش يدافع عن نفسه، من وجهة نظرهم، تحت وطأة صواريخ المقاومة "العبثية"، بل أكثر من ذلك، رفع أحدهم، بكل وقاحة وصفاقة، حذاءه على الهواء مباشرة في تحد سافر للمقاومة، في سابقة لم نشهد لها مثيلاً حتى في الإعلام الإسرائيلي المعادي، الذي خصص، في إحدى حلقاته، عن الحرب، فقرة خاصة تجاوزت خمس دقائق، تناول فيها هذا الموقف الغريب، الذي تم اعتباره تطوراً نوعياً في الخطاب الإعلامي العربي، وتقاطعه مع الخطاب اليميني المتطرف الذي يدعو إلى قتل الفلسطينيين ورميهم في البحر! ومن جملة ما طفح، أيضاً، في إطار "نظرية المؤامرة" التي يعمل الإعلام المصري على تسويقها لتشويه صورة المقاومة الفلسطينية، الإشاعة بين العامة بأن نحو سبعة آلاف عنصر من حركة حماس تسللوا إلى مصر، واقتحموا السجون المصرية، وحرروا مساجين، قبل أن يعودوا إلى ديارهم سالمين غانمين! مع العلم أن المسافة الفاصلة بين حدود قطاع غزة "المحاصر"، وأقرب سجن تم تحريره لا تقل عن 600 كلم. كل هذه ادعاءات وافتراءات، تقودنا إلى سؤال عن دور المخابرات المصرية، وأجهزة الشرطة والأمن، والجيش المصري صاحب الترسانة العسكرية العظيمة! شطحاتٌ كثيرة لا يتسع بنا المقام لذكرها، تدور جميعها في فلك المؤامرة على المحروسة مصر، وليس أطرفها النكتة التي أطلقها أحد البلهاء، وتقول إن الإخوان المسلمين هم السبب في خروج العرب من الأندلس، أو النكتة التي تقول إن للإخوان أكثر من عشرة أعضاء في البنتاغون، وأن شقيق الرئيس الأميركي، باراك أوباما، إخواني. تبدو هذه المعلومات أقرب إلى روح النكتة والدعابة، أفرد لها الإعلام المصري حلقات مطوّلة، في فضائياته وإذاعاته وصحفه الخاصة والرسمية، وناقشها، بكل حزم وموضوعية، بوجود محللين وخبراء بالشأن الأمني والسياسي والبحوث العلمية التي كان أحدث إنجازاتها: "أصبع الكفتة". حالة من الانحلال الأخلاقي والثقافي تسيطر على الإعلام المصري، والذي على الرغم من إرثه وباعه الطويل في مجال الإعلام، إلا أنه لم يستطع أن يحافظ حتى على الحد الأدنى من مقومات المهنية والموضوعية. - See more at: http://www.alaraby.co.uk/opinion/361234d2-588c-415a-b569-116c4599a789#sthash.BZAQ5MFy.dpuf