أرض كنعان/ لا نستطيع أن نصف الشيخ الراحل إلا بذا الوصف، فقد كان لنا بالفعل شمساً، أشرقت في نفوسنا، فملأتها لا أقول علماً بل حباً في العلم.
رحل الكحلوت رحمه الله، ورغم أنه لم يكن له ولد من صلبه إلا أنه قد ترك خلفه جيشاً من الأبناء الذين تتلمذوا على يديه، والذين هم اليوم في مقدمة من يحمل علم شرع الله تعالى، مما يدفعنا إلى القول إنه قد ترك خلفه علماً ينتفع به وصدقة جارية إلى يوم القيامة، مصداقاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به، أو صدقة جارية"، فها هم تلاميذه الذين حملوا العلم عنه ماضون على نهجه، وهاهم من امتدت إليهم يده البيضاء من اليتامى والمساكين والأرامل وكل المعوزين من طلبة العلم وغيرهم، ينتفعون بعطائه الجزيل.
كان الشيخ عالماً لا يبارى في علمه، حقاً كان متخصصاً في الفقه الإسلامي، لكننا تعلمنا على يديه الفقه والحديث وعلومه والتفسير وعلومه واللغة العربية وعلومها، حينما كنت تجلس أمامه أثناء الدرس كنت تجد نفسك أمام موسوعة في علوم الشرع، وهذا سرّ تفوقه على غيره، والتفاف طلبة العلم حوله.
هذا ولم يتوقف الأمر عند حدّ طلبة العلم في المؤسسات العلمية التي عمل بها؛ بل كان له حلقات علم في المساجد، كلها، فما خلا تقريباً مسجد من المساجد التي استطاع أن يصل إليها من درس أو موعظة يلقيها بين يدي سامعيه، وما بقي منبر من منابر مساجد غزة إلى اعتلاه ووقف في الناس خطيباً ، كان في كل رمضان يجوب مساجد غزة في صلاة الفجر، يصلي في الناس إماماً، ثم يقف واعظاً ومعلماً.
وقد كان لغير طلبة العلم نصيب فيه، فمكان مجلسه دائماً عامر بعامة الناس، ليس من حيه فقط، بل من مختلف الأماكن في مدينة غزة، كان يجلس إليهم ويسامرهم، ويستمع إليهم ويستمعون إليه، لم يكن به كبر ولا عجب بنفسه؛ بل كان هو عنواناً للتواضع واللين في أيدي الناس.
كان الشيخ ساعياً سعياً حثيثاً في الإصلاح بين الناس، فكم هي الخصومات التي حلت وتم الصلح فيها ببركة حضوره بين الناس، ويعجب المرء من هذه الثقة التي تمتع بها الشيخ، فقد وثق به كل الناس، ورضوا به مفتياً وحكماً وواعظاً، ولم يخالف عنه إلا مكابر أو حاسد.
ورغم تعدد الوجهات السياسية والتنظيمية في غزة إلا أن الرجل كان وسطياً، وحدوياً، لا يميل إلا إلى الحق حيثما كان، لا يخاف في الله لومة لائم.
عرفت الشيخ عن قرب، كان شيخي حين كنت تلميذاً، وكان شيخي حين حملت الدكتوراة، كان مرجعي في ما يشكل عليّ، وكان له عندي أيادٍ بيضاء، لا أعرف الآن كيف أردها، وليس بوسعي إلا أن أقول: نم قريراً يا شيخنا، ويرحمك الله رحمة واسعة، بقدر ما حقنت من دماء، وبقدر ما تتلمذ على يدك من علماء، وبقدر ما وعظت ونصحت وعلمت، وبقدر ما أنفقت في سبيل الله من مال، يرحمك الله شيخنا، فقد كنت لنا شمساً.