ارض كنعان
قررت الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية يوم الجمعة 5 فبراير ،2021 باختصاص المحكمة الجنائية الدولية الإقليمي على الحالة في فلسطين، وذلك رداً على طلب كانت قد تقدمت به المدعية العامة للمحكمة السيدة (فاتو بنسودا)، للبت في اختصاص المحكمة على فلسطين في العام 2019، وبعد أن أنهى مكتب المدعي العام مرحلة التحقيقات الأولية.
من الجدير بالذكر أن فلسطين تقدمت بطلبها الأول كدولة غير طرف في المحكمة في 22 كانون الأول عام 2009، وذلك بإعلان فلسطين قبول اختصاص المحكمة على أراضيها وفقاً للمادة (12) من نظام روما الأساسي (النظام الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية)، ولكن المدعي العام للمحكمة في ذلك الوقت (لويس أوكامبو) تَمَنّع عن فتح التحقيق، وأعلن في نيسان عام 2012 أنه ليس على يقين أن فلسطين تعتبر دولة بموجب القانون الدولي.
وفي الأول من كانون الثاني للعام 2015، أودعت فلسطين إعلانها الثاني بقبولها اختصاص المحكمة على أراضيها منذ 13 حزيران 2014.
وفي 2 كانون الثاني أي بعد تاريخ الإيداع بيوم واحد اودعت فلسطين طلب انضمامها للمحكمة الجنائية الدولية وتم قبوله من المحكمة، لتصبح فلسطين الدولة 123 التي تنضم للمحكمة.
طبعاً لم تستطع فلسطين أن تحظى بعضوية المحكمة إلا بعد أن حصلت على صفة دولة مراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2012.
قرار الدائرة التمهيدية الذي أشرنا إليه بقبول اختصاص المحكمة على فلسطين لا شك بأنه بداية السبيل الطويل المؤدي إلى محاكمة قادة وجنود الاحتلال على الجرائم التي ارتكبوها بحق شعبنا، وهو طريق يحتاج إلى عمل دؤوب وجهد مكثف.
ولكن في ثنايا هذا القرار خطر كامن يجب التنبيه له والحذر منه، وهو أن ولاية المحكمة الإقليمية تعني أن تفتح التحقيقات في كل الجرائم (من وجهة نظر المدعي العام للمحكمة) التي وقعت في النطاق الزمني والإقليمي لولاية المحكمة، بمعنى أن التحقيقات ليست قاصرة أو محصورة فقط بالجرائم التي ارتكبها قادة العدو وجنوده، لكن أيضاً فيما يعده المدعي العام "جرائم" ارتكبتها الفصائل الفلسطينية.
وهذا ما ذكرته المدعية العامة في تقريرها الصادر العام الماضي 2020م بشأن أنشطة الدراسة الأولية التي يجريها مكتبها حول الحالة في فلسطين.
ومن الجدير بالذكر أن قضاء المحكمة الجنائية الدولية يعمل وفقا لمبدأ التكاملية، الذي يعني أن دور المحكمة الدولية دوراً مكملاً للقضاء الوطني وليس بديلاً عنه، وبذلك يكون دورها مقتصراً فقط على الحالات التي لا تلتزم فيها الدول بمسؤوليتها القانونية وفقاً لقواعد القانون الدولي، ولذلك فإن مبدأ التكاملية يتطلب أن تكون الدولة المعنية غير راغبة أو غير قادرة على القيام بدورها في التحقيق في الجرائم الواقعة على أراضيها، والتي تدخل في نطاق اختصاص المحكمة، وذلك وفقاً للمادة (17) من نظام روما الأساسي.
وقد ذكرت المدعية العامة في تقريرها للعام 2020 الذي أشرت إليه، ما يجزم بأنها حسمت أمرها بشأن التحقيق في الجرائم التي ارتكبتها المقاومة من وجهة نظرها، ولكنها لم تحسم أمرها بعد بشأن جرائم الاحتلال، ودعوني أقتبس جزء من نص تقريرها وهو على النحو التالي " فقرة 222 صفحة 56 من التقرير"
"وفيما يتعلق بمقبولة القضايا المحتملة المتعلقة بالجرائم التي يُدعى أن أفراداً من جيش الدفاع الإسرائيلي ارتكبوها، لا حظ المكتب أنه بسبب محدودية المعلومات المتاحة فيما يتعلق بالإجراءات التي تم اتخاذها ووجود إجراءات معلقة فيما يتعلق بادعاءات أخرى، فإن تقييم المكتب للمقبولية من حيث نطاق وحقيقية الإجراءات المحلية ذات الصلة لا يزال جارياً، وسيلزم إبقاؤه قيد المراجعة في سياق التحقيق، غير ان المكتب خلص إلى أن القضايا المحتملة المتعلقة بالجرائم التي يدُعى أن أعضاء من حماس والجماعات المسلحة ارتكبوها ستكون مقبولة عملاً بالمادة (17/1/أ-د) من النظام الأساسي" –انتهى الاقتباس-
وكانت المدعية العامة قد ذكرت في تقريرها الصادر في العام 2018 "أن المعلومات المتاحة لها تدل على أن إسرائيل حققت على المستوى الوطني في الجرائم المزعوم ارتكابها، وقام مكتب المدعي العام بجمع المعلومات وتقيم أنشطة التحقيق ذات الصلة على المستوى الوطني داخل الجيش الإسرائيلي والنظام القضائي الإسرائيلي، "وأضافت" بإن مكتبها لم يتمكن من تحديد أي إجراءات (تحقيقات) وطنية ذات صلة بالجرائم المزعوم ارتكابها من قبل الجماعات الفلسطينية المسلحة".
ما سبق يعني بوضوح أن هناك قناعة باتت لدى مكتب المدعي العام، بأن مبدأ التكاملية قد يكون فعال فيما يتعلق بالجرائم التي ارتكبها قادة العدو وجنوده، وذلك لوجود إجراءات قضائية داخل الجيش الإسرائيلي بخصوص هذه الجرائم، الأمر الذي قد يغل يد المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية عن التحقيق في هذه الجرائم، في حين أن يده طليقة تماماً في إجراء التحقيق فيما يتعلق (بالجرائم) التي ارتكبتها المقاومة من وجهة نظر مكتب المدعي العام.
وهنا تكمن الخطورة الشديدة، ذلك أن قدرة العدو على الخداع والتضليل والابتزاز، وقدرته على استخدام وسائل الضغط الدبلوماسية والسياسية والأمنية قد يحول دون محاكمة قادته وجنوده، بينما يبقى ظهر المقاومة مكشوفاً للقضاء الدولي، خصوصاً في ظل حالة التواطؤ العربي والدولي، ولذلك نحذّر من أن نصفق لقرار المحكمة بقبول اختصاصها على فلسطين دون تَرَوّ ودراسة متأنية، خوفاً من أن نكون كالذي استجار من الرمضاء بالنار.