بقلم / محمد بوعنونو
لقد كانت الفتوى وما زالت حاجة إنسانية ملحّة، ومطلبا اجتماعيا ودينيا لا مندوحة عنه ولا مناص منه، بما هي توقيع عن الله رب العالمين، وبيان لأحكام وتشريعات أحسن الخالقين وخير الحاكمين.
وقد أرّخ القرآن الكريم لحاجة المجتمعات للفتوى بشكل عام وبمعناها الشامل، فبلقيس التي ستصبح فيما بعد زوجة سليمان النبي عليه السلام، طلبت الفتوى من قومها بعد ما قرأت رسالة سليمان، { قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون }، وملك مصر في زمن يوسف عليه السلام هو أيضا طلب الفتوى من قومه لتعبير ما رأى في المنام، { أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون }، فالفتوى في مجالها العام أمر في غاية الأهمية ، أما في مجال الشريعة وعلوم الدين فهي الأهمية نفسها التي لا تؤخذ إلا من أهلها، ولا يمكن البتة الاستغناء عليها.
هذه الحاجة الملحّة للفتوى في المجال الشرعي خصوصا، جعل كثيرا من الناس يتجرأون على هذا المقام، ويتصدرون منزلة التوقيع عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والتبليغ عنهما بجهل مكين وضلال مبين، ويعتبرون التخصص الشرعي مجالا مستباحا، يفهمه الكل وينتسب إليه الجميع ويتحدث فيه كل من هب ودب، فكان أن ضل كثير من الناس، وحدثت اضطرابات وأزمات بسبب فتوى هذا أو ذلك، من الذين استباحوا التخصص الشرعي والمجال الدعوي، والحالة أن مقام الفتوى مقام عظيم، لا يؤدي حقه إلا أهل الاختصاص وأصحاب القدم الراسخة في علوم الدين.
فكان مسعى هذه الورقة بيان القواعد التي يجب التقيد بها أثناء إصدار الفتوى، واستجلاء الشروط التي ينبغي توافرها في شخص التصدر لهذا المقام العظيم، مما تلقيناه في مادة الفتوى بقسم الدراسات الإسلامية بوجدة، عسى أن تستحيل هذه القواعد وتلك الشروط سياجا يحفظ حمى هذا الدين، ورادعا قويا لكل من سولت له نفسه وزينت له شهوته تسلق هذا السور العظيم من غير علم ولا تكوين.
فلزاما على المنتصب لإصدار الفتوى أن يكون عالما بالمصادر الشرعية، عارفا بمدارك الشارع المثمرة للأحكام، مهتديا إلى كيفية استثمارها، مستحضرا شروط الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، متمكنا من استثارة الظن بالنظر فيها وتقديم ما ينبغي تقديمه وتأخير الذي يجب تأخيره.
ومما هو في غاية الأهمية بالنسبة للمفتي معرفة الواقع المعيش، أشار إلى ذلك شيخ المقاصد الإمام أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات : ( لا يصح للعالم إذا سئل عن أمر كيف يحصل في الواقع إلا أن يجيب بحسب الواقع )، وأكد على هذا أيضا فضيلة الدكتور عبيد حسنة و كذا العلامة يوسف القرضاوي.
وعلى المفتي مراعاة عسر التعذر والاحتراز، ومعنى ذلك أن يراعي المفتي ما يصعب الاحتراز منه عند إصدار الفتوى، وهذا يدخل في مجال العبادات وغير العبادات، ومن الأمثلة على ذلك دم البرغوث والبعوض فهو معفو عنه لصعوبة الاحتراز منه.
كما يجب على المفتي تحقيق المناط في الأشخاص والأنواع، فالأول نظر في تعيين المناط من حيث هو لمكلف ما، والثاني هو النظر الخاص فأعلى من هذا وأدق، وهو في الحقيقة ناشئ عن نتيجة التقوى المذكورة في قول الله تعالى : { إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا }، وقد يعبر عن هذا بالحكمة.
ومطلوب من المفتي أيضا استحضار روح التسهيل والتيسير، فالشريعة مبنية على التيسير ورفع الحرج والمشقة، وهو منطوق القرآن الكريم والسنة النبوية، وديدن الصحابة ومنهج العلماء الربانيين.
فهذه القواعد لا بد للمفتي أن يستحضرها عند إصدار الفتوى، وهي في الوقت ذاته سد منيع في وجه محبي الكاميرا والميكروفون وعشاق النجومية والظهور على حساب الدين، حتى يبقى مجال الفتوى محفوظا، لا يتولاّه إلا من قطع أشواطا كثيرة في مجال علوم الدين، وعرف ما يقتضيه مقام النيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشريع، فما كان من توفيق فمن الله، وإن كان هناك خلل فسادتي فرسان العلوم الشرعية يصلحون الخلل ويقومون الاعوجاج، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والصلاة والسلام على المصطفى الكريم.
هذه القواعد الذي ذكرتها هنا هي خلاصة منخولة وزبدة ممخوضة لمحاضرة ألقاها علينا فضيلة الدكتور سيدي نور الدين قراط، بقسم الدراسات الإسلامية برحاب كلية الآداب بوجدة سنة 2019، ذلك أن من بركة العلم نسبته لأهله، فها أنا أنسبه لصاحبه احترما للامانة العلمية، والسلام
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة أرض كنعان الإخبارية