أرض كنعان
في وقت يسعى فيه الفلسطينيون لوضع بلدة سبسطية الأثرية شمال نابلس على خريطة السياحة العالمية، باعتبارها أحد أهم وأقدم المواقع الأثرية في العالم. تنفذ سلطات الاحتلال الإسرائيلي خطة لتزييف التاريخ، وتغيير معالم البلدة في الوقت الراهن من خلال سلسلة خطوات تأخذ طابعا عسكريا في أغلب الأحيان.
وحسب اتفاق أوسلو، فقد تم تقسيم بلدة سبسطية إلى: منطقة "ب" (خاضعة إداريا للسلطة الفلسطينية
وأمنيا للجيش الإسرائيلي)، ومنطقة "ج" (خاضعة إداريا وأمنيا للسيطرة الإسرائيلية)، الأمر الذي يشكل عقبة هامة في تطوير مواقع البلدة الأثرية، كونها تقع جميعها داخل حدود المنطقة "ج"، فيما تقتصر أعمال الترميمات على مساكن قديمة تقع داخل البلدة ضمن المنطقة "ب".
يقول رئيس بلدية سبسطية محمد عازم لـ"فلسطين الآن" إن قوات الاحتلال لم تعد تعترف بتلك التصنيفات، فهي تقتحم سبسطية في أي وقت، وتلاحق السياح الأجانب والزوار الفلسطينيين، وترعبهم حتى لا يعودوا للمكان.
كما أن الاحتلال يمنع أي جهة فلسطينية من تطوير المواقع السياحة والأثرية في سبسطية، "فهم يرفضون أن نضع يافطات ارشادية أو إنارات ليلية للمسار السياحي. فقد قمنا مؤخرا بوضع لافتات تعريفية بمواصفات دولية باللغتين العربية والانجليزية تشير إلى تاريخ وهوية المواقع الأثرية الأصلية على أنها فلسطينية وعربية، وبعد تعليقها أزالتها قوات خلال 24 ساعة".
ويشدد على أن "دولة الاحتلال بكل ما أوتيت من نفوذ وقوة تسعى لطمس الآثار التاريخية من خلال سرقتها أو تدميرها أو استبدالها بما يعزز الرواية التي يسردها المرشدون الإسرائيليون للسياح الوافدين من طرفهم إلى بلدة سبسطية. ومن هنا يأتي منع السلطات الإسرائيلية للفلسطينيين بالقوة من إعادة تأهيل المواقع الأثرية في القرى والبلدات الفلسطينية بشكل عام، في ظل محاولتها ربط تلك المواقع بالتاريخ اليهودي".
ساحة البيدر
ومن أبرز الأمثلة على المضايقات التي تتعرض لها سبسطية من الاحتلال، عرقلته منذ نحو عام لاتمام عمية تأهيل ساحة "البيدر" الملاصقة للأعمدة الرومانية القديمة وسط. فقوات الاحتلال اقتحمتها عشرات المرات مؤخرا وطردت العمال وصادرت بعض المعدات، رغم أن الساحة تقع في المنطقة المصنفة "ب" وفق اتفاقية أوسلو، أي تحت السيطرة الإدارية للسلطة الفلسطينية.
مكتب "اليونسكو" في رام الله كان قد وافق على تنفيذ مشروع "ساحة البيدر" كاملا، بعدما تأكد من عدم تعارضه مع المعايير المحلية والدولية ذات العلاقة بالمحافظة على الإرث التاريخي للموقع، ليتم البدء بالعمل في المشروع قبل نحو عام.
ويقوم المشروع على تأهيل "ساحة البيدر" التي تزيد مساحتها عن 10 دونمات، و"تبليط" أرضيتها، ورصف محيطها بالحجارة، لمنع دخول المركبات إليها، الأمر الذي يُسهل حركة السياح، كون الساحة تلاصق أحد القصور الملكية الرومانية المعروفة بمركز الحكم في عهد الرومان، لكن مركز الحكم الروماني الملاصق تماما للساحة يقع في المنطقة المصنفة "ج"، الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية الكاملة، برغم أن المسافة بينهما لا تزيد عن متر واحد فقط.
ويرى عازم أن خطوة تأهيل "ساحة البيدر" من شأنها أن تنهض بالواقع السياحي في سبسطية، من خلال توفير مرافق سياحية وتحسين الصورة الجمالية للموقع الأثري في البلدة وتأهيله لاستقبال السياح، حيث إن المشروع يتم وفق مواصفات عالمية وفلسطينية تتناسب مع مواقع التراث العالمي، لكن ذلك لم يرق لسلطات الاحتلال الإسرائيلي، يؤكد عازم.
تخريب متعمد
وعلى مدار الأشهر الماضية، لم تترك قوات الاحتلال سبسطية و"ساحة البيدر"، فاقتحمت المنطقة برفقة ضباط من "الارتباط الإسرائيلي" عدة مرات، وأوقفت عملية تأهيل الساحة، إلى درجة أن هددت بـ"تخريب" المشروع حتى لو تم تنفيذه بالكامل، وهو ما تم فعلا، إذ عملت آليات عسكرية على خلع ما تم تركيبه من أرصفة وبلاط وصادر جنود الاحتلال معدات العمل، لكن رئيس بلدية سبسطية محمد عازم يؤكد: "نحن مصرون على إتمام تأهيل ساحة البيدر مهما فعلوا".
اصطدام "هندسي"
ويصر الاحتلال الإسرائيلي على تدمير مشروع تأهيل "ساحة البيدر"، التي يستخدمونها لإيقاف سيارات المستوطنين وحافلاتهم عند اقتحام الموقع الأثري في سبسطية، حيث يقول مدير مديرية السياحة والآثار في محافظة نابلس مفيد صلاح، لـ"فلسطين الآن": "لقد اصطدمنا مع مهندسي السياحة الإسرائيليين الذين يقتحمون المكان بحماية جيش الاحتلال، وأبلغناهم أن المشروع يتم في المناطق الخاضعة لسيطرتنا، وهناك موافقة دولية عليه، ورفضنا كل البدائل التي قدموها، لأنها بنظرنا خطيرة، وغير مقبولة".
موقع استراتيجي
ويوضح صلاح أن سبسطية تقع على تقاطع الطرق التجاري التاريخي الذي يربط شمال فلسطين بجنوبها، والتي شهدت قيام الكثير من الحضارات على أرضها، وهي محط أنظار السواح الذين يأتون إليها من مختلف بقاع العالم. كما انها محط أنظار الدراسين وعلماء التاريخ.
ويشير إلى أن البلدة تحوي نحو 40 موقعا أثريا، أهمها شارع الأعمدة، والبازيليكا (المحكمة)، والمدرج، والبرج الهيلينستي، ومعبد أغسطس، وقصر القلعة، والقبور الرومانية، في حين يرجح الباحثون أن الآثار الموجودة في سبسطية والمكتشفة حتى الآن لا تتعدى الـ5 بالمئة من الآثار والمعالم غير المكتشفة بعد.
وتعرضت سبسطية لعمليات سرقة ممنهجة لآثارها على يد الاحتلال الإسرائيلي، خاصة في الفترة التي سبقت قيام السلطة الفلسطينية عام 1993، حيث سرقوا التمثال الذي جسد حكاية الراقصة "سالومي" والملك الروماني "هيرودس"، وبذلك استولوا على حقبة مهمة من التاريخ العالمي، وأسدلوا الستار على قصة مثيرة من قصص التاريخ، وفق صلاح.