وأنا أقرأ نبأ استقالة يهود باراك وزير الدفاع تذكرت مقولة المحامي والناشط التونسي "عبد الناصر العويني" حينما قال: بن علي هرب، بن علي هرب، بن علي هرب. وأنقذ رأسه من المقصلة، وحرم تونس من محاسبته، وحرم تونس من أسرار وحقائق أتمنته عليها. واليوم هرب باراك من مواجهة الحقيقة، والمسائلة، وقدم نفسه كبش فداء لإنقاذ غيره.
نعرف أن حرب لبنان أطاحت بحكومتها في الكيان وخصوصا قائد الأركان من خلال تقرير فينوغراد ، وحرب غزة الأولى أطاحت بحكومتها أولمرت ليفني، وحرب غزة 2كان يفترض أن تطيح بحكومتها خصوصا وأنها أكثر الحروب خسارة، وسوء إدارة، وأكثر مرارة في نتائجها على دولة الكيان. لكن باراك وبعد مشاورات مع حلفاءه نتنياهو، وليبرمان، قرر أن يعتزل العمل السياسي، ويغادر منصبه الحالي كوزير للدفاع، ويغلق الطريق أمام المسائلة للحكومة التي قادت هذه الحرب المجرمة في محاولة لخداع وتضليل الرأي العام الإسرائيلي والفلسطيني.
فهو يدرك أنه منذ قرر التحالف مع نتياهو ليبرمان فقد أوراقه الحزبية خصوصا بعد انشقاقه عن حزب العمل، وهو يدرك أن الهزيمة النفسية والمعنوية التي مني بها قادة الكيان والرأي العام الإسرائيلي إلى جانب الهزيمة العسكرية والخسائر الجسيمة جعلت منه شخصا غير مرغوب فيه، ولا يملك حظوظا لقيادة كتلته الحزبية المنشقة للفوز في الانتخابات المقبلة، وأن كل المداولات التي جرت لتقييم حظوظه من قبل حلفاؤه وشركائه انتهت إلى أن لا يملك فرصة بل ربما يضر بهم، ولذلك لم يجد بد إلا ضرورة مغادرة المسرح السياسي كما فعل في أعقاب انفجار انتفاضة الأقصى الثانية أثناء رئاسته لحكومة الاحتلال آن ذاك. وبذلك هو يبعد نفسه من المواجهة مع الجمهور والرأي العام، ويترك الباب مواربا أمامه للمستقبل كما فعل بالماضي.
نعود للمؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه عن عزمه اعتزال الحياة السياسية ماذا قال: إنه سيبقى في منصبه وزيرا للأمن إلى حين تشكيل الحكومة القادمة بعد ثلاثة أشهر. وأشار إلى أنه أمضى في الجيش الإسرائيلي 47 عاما، تدرج في عدد من المناصب، وأمضى 7.5 سنوات في منصب وزير الأمن في ثلاث حكومات، كانت إحداها برئاسته.
وردا على سؤال قال إنه سيدعم أي طريق يختاره أعضاء الكنيست من قائمته (عتسمؤوت)، رافضا أن ينفي أنه على استعداد لإشغال منصب وزير الأمن في حال طلب منه ذلك بشكل شخصي، على حد تعبيره.
أي أنه يترك لنفسه مساحة ليستمر في لعب دوره في الحياة السياسية والأمنية حاليا ومستقبلا، بعيد عن لعبة الانتخابات المقبلة بما يحفظ له ماء ووجه، ويجعله شخصية محل استقطاب القوى الحزبية الفائزة في الانتخابات المقبلة، وربما يعود ليمارس دورا أخطر من دوره الحزبي الحالي.
صحيح أن رحيله هو ثمن لقراره شن الحرب على غزة، وثمن هالة الانتصار التي خرجت بما المقاومة على عقلية وقيادات الاحتلال العسكرية والأمنية والسياسية، لكن خروجه على هذا النحو يمثل عملا مشرفا له أمام الرأي العام الإسرائيلي بل والفلسطيني، وهو بذلك يقوم بعملية خداع وتضليل مزدوجة.
فإسرائيليا، يقدم نفسه على أنه بطل، وأنه غادر حينما أدرك أنه يجب أن يغادر، وبمحض إرادته، ودون أي مسائلة، ودون أن يخسر التصويت أمام الرأي العام الإسرائيلي، ودون أن يواجه أي مسائلة عن الحرب الأخيرة. وفلسطينيا، يغادر دون أن يتحمل أي مسئولية عن جريمة الحرب، ودون أن يساءل أو يلاحق، بعد أن شعر أن القدرات الفلسطينية العسكرية والسياسية والدبلوماسية باتت عالية، وقد تنجح في مرحلة ما في جر قادة الكيان إلى محاكمات ومساءلات دولية.
كنا نريد أن يستمر باراك في الحياة السياسية والعسكرية ويواجهنا على مسرح المعركة الكبير لنحاسبه ليس على هذه الحرب، بل على الحساب الكبير من بيروت وحتى غزة !!