كشفت العمليات الفدائية الأخيرة التي نفذها شبان فلسطينيون في الضفة الغربية والقدس المحتلة ضد الجيش الإسرائيلي والمستوطنين، عن تسلح الشعب الفلسطيني بإرادة المقاومة ضد المحتل، وخلع رداء الرضا بالواقع البائس والمظلم، وعبرت العمليات عن وصول الأمور إلى نقطة اللا عودة لما كان عليه الوضع قائما، حيث الاقتحامات المتواصلة للحرم القدسي، والاعتداءات المتلاحقة على المسجد الأقصى.
جاءت هذه العمليات الفردية لتفسر تزاحم الإبداعات الصغيرة وخلق المقدمات للإبداعات الكبيرة، حيث استطاعت المقاومة الشعبية التقاط هذه الإبداعات التي تفتقت عن العقل الجماعي الفلسطيني، واستنادا لذلك فإن ما جرى في الضفة والقدس خلال الأسابيع الأخيرة، من نزول الشعب إلى معترك المقاومة، وأمكن له تطوير وتحديث أسلحته البدائية الشعبية لتمسي أكثر فعالية من السابق.
زخرت العمليات الأخيرة بأنواع متعددة من الأسلحة التي استخدمها مقاتلوها، وشهدت تطورا ملحوظا بدءا بالحجر والمقلاع، ومرورا بالسكين والأسلحة الحادة، وانتهاء باستخدام السلاح الناري، وأتى هذا التطوير النوعي لأدوات المقاومة في مواجهة المحتل لتمنح هذه الأسلحة البدائية حق المقاومة لكل أفراد الشعب، فهذا يرفع متراسا، وذلك يشعل إطارا، وثالث يصنع المولوتوف، ورابع يحفر خندقا، وخامس يرش الأرض بالمسامير، وسادس يطعن مستوطنا، وسابع يدهس جندياً، بحيث تحولت فلسطين إلى ورشة شعبية، يشارك بها الجميع.
وفي هذا السياق تحدث ضباط المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال الإسرائيلي عن عدم امتلاكهم حلاً سحرياً لوقف العمليات التي يقوم بها الفلسطينيون، لأن تزايدها يعني أن قوة الردع الإسرائيلية تضعف يوما بعد يوم، والمفارقة أن (إسرائيل) قادرة على إعداد صاروخ "حيتس" الحديث المضاد للصواريخ، لكنها لا تنجح بتأمين سلامة مواطنيها أمام هجمات السكاكين.
ودأبت المخابرات الإسرائيلية على جمع تقارير وافية من شهود العيان الذين شاهدوا العمليات الأخيرة، مما يسهل عليها تحديد مصدرها، كما تساعد المعلومات في التحقيق عند استخدام "الفتاشات" الأمنية مما يقوي الأمل في الوصول للمنفذين، بحيث لا يمكن لأي إنسان أن يعترف بمسئوليته عن العملية ما لم يكن قام بها.
كما جمعوا معلومات مفصلة عن الأشخاص المنفذين، وأشكالهم، والسيارة التي استقلوها ومواصفاتها، وكيف تمت العملية بالضبط، وجمع كل ما من شأنه أن يفيد في الوصول للمقاومين، وبالذات تحديد الجهة المسئولة عن العملية، مما يؤدي لتقليل دائرة البحث الاستخباري.
لكن ذلك تطلب من المخابرات الإسرائيلية إخفاء نتيجة العملية فترة طويلة لامتصاص ردة الفعل الجامحة المتوقع حدوثها في الشارع الفلسطيني فور السماع بها، وبالتالي فرض طوق أمني على منطقة العملية، وتكثيف قوات الجيش من تواجدها ودورياتها منعا لحدوث حوادث أخرى.
وتبدى نجاح المقاومة في صراعها الاستخباري مع المخابرات الإسرائيلية، من خلال الفشل في تحديد المواصفات الجماعية المشتركة (Profile) للمقاومين منفذي العمليات الفدائية كي يتم تحديد استراتيجية مضادة، ولم يتم وضع مواصفات دقيقة مشتركة لهم، لأنهم عكسوا التركيبة الاجتماعية للشعب الفلسطيني، فمنهم المتدين والعلماني، ومنهم المتعلم ومحدود التعليم، ومنهم المتزوج وأب الأولاد، ومنهم الأعزب، ومنهم الشاب ومن هو في منتصف العمر، ومنهم ابن القرية، وابن مخيم اللاجئين، وابن المدينة.
وتجلى هذا الفشل الأمني الإسرائيلي من خلال ما عرف بـ"ضياع المواصفات المشتركة"، ففي حين بقيت الخلفية الدينية لدى معظم منفذي العمليات، فوجئت المخابرات بفدائيين جدد من قوى علمانية، وفي حين أيقن رجال الأمن أن منفذي العمليات من الشبان، خرجت لهم سلسلة طويلة من الرجال والفتيان والنساء ممن نفذوا عمليات موجعة.
لكن أكثر ما أثار غضب قادة الجيش يكمن في فشل الأجهزة الأمنية في الوصول إلى خيط رفيع للعمليات الفردية، لاسيما وأن عددا كبيرا من المقاومين يشتركون في تنفيذها وإعدادها، وتستغرق زمنا لا يزيد على أيام قليلة، فهل يعقل ألا تنتبه المخابرات الإسرائيلية لهذه التحضيرات؟!.