أطفال الحجارة/ جيل الانتفاضة عندما ثار وتمرد على الاحتلال في الانتفاضة الأولى وضع لبنة جديدة في أساسات الهوية الفلسطينية ورسم صورة جديدة للفلسطيني ولشكل الثورة والعصيان في آن واحد، بأدوات وأفكار بسيطة بطريقة أذهلت العالم وعلمته الكثير عن الثورة في وجه الاستعمار، ولكنها أيضا أرعبت الاحتلال الذي وقف عاجزا أمام إصرار الفلسطيني وأدواته البسيطة، في ايجاد حل عسكري جذري لوقف الثورة/ العصيان/ التمرد.
ولكن السياسة قامت بالواجب وأكثر، فالحل السياسي/ السلمي المشوه (بمساعدة المانحين ومالهم السياسي) لم يوقف الانتفاضة بفعلها المقاوم وحسب، بل بذل كل ما في وسعه من أجل تفتيت الحاضنة الاجتماعية للفعل المقاوم وتفريغ إنجازات الانتفاضة من مضمونها المادي والمعنوي ومن أجل قتل بذور وعنفوان الثورة في جيل بأكمله من أجل ضمان عدم تكرارها مرة أخرى، لأن تكرارها بنفس العنفوان المقاوم وبنفس المضمون الفكري والثوري ــ وإن كان بأسلوب وأدوات مختلفة ــ يهدد وجود هذا الحل السلمي" السلطة" وجهازه المالي والاداري، بنفس القدر الذي يهدد فيه وجود الاحتلال.
ولا شك أن الحل السلمي قد قطع شوطا طويلا في هذا المجال، ولا ننسى أيضا أن جزءا لا بأس به من هذا الشوط الطويل تم في "الحقبة الفياضية" وكل ما رافقها من سياسات تدجين المجتمع او "الحاضة الاجتماعية" للمقاومة في لغة الشعوب المحتلة، وطبعا لا داعي للحديث ــ أو حدث ولا حرج ــ عن المقاومة نفسها وماذا حل بها قبل تدجين حاضنتها الاجتماعية.
ولكن في نفس الوقت الذي بدأت فيه حقبة فياض في ترسيخ تدجين المقاومة وحاضنته الاجتماعية، بدأت في غزة حقبة آخرى، كنا نسميها حقبة الانقسام، وقد أظهر العدوان الأخير على غزة مدى تطور المقامة ــ في نفس الإطار الزمني لحقبة فياض ــ بأسلحتها وأدواتها وأنفاقها ومدى تماسك حاضنتها الاجتماعية.
لا أريد الدخول في مقارنة مفصلة بين هنا وهناك، ولكن باختصار نهج التسوية حول ما بقي من جيل الانتفاضة الأولى إلى جيش من المطبعين والمنسقين، وجيش آخر من الموظفين المدنيين و"العسكريين" سمتهم الأولى انهم مرهونون للبنك، كما أنه وبسبب ضيق الحيز المكاني الذي يدّعي نهج التسوية بأنه دولة مستقلة، فقد اضطر للتمدد عموديا في المعمار بصورة فجة ووقحة لا تتناسب مع المكان ولا الزمان لشعب محتل.
أما المفارقة، أنه غطى هذا التمدد المعماري العمودي بالزجاج، وكأنه يريد أن يقول ان مشروع التسوية لا يقل هشاشة عن النمط المعماري العامودي الذي أفرزه.
في حين أن نهج المقاومة ومن وحي جيل الانتفاضة الأولى والثانية، أوجد جيشا مسلحا مدربا ومجهزا خرج منتصرا في معركته الأخيرة مع الجيش الذي لا يقهر، ولأنه يدرك أن الحيز المكاني الذي يعيش عليه ليس دولة مستقلة بل أنه مدرك أيضا ان هذا الحيز المكاني ضيق ومحاصر ومكشوف أمنيا ولا يكفي لخلق حالة/ نهج مقاوم قوي، ابتكر طريقة عبقرية ومعقدة وسرية لمضاعفة حيزه المكاني، تمتد أفقيا تحت الارض ومسلحة بالاسمنت والصواريخ والمقاوميين المدربيين، في دلالة واضحة أنها راسخة وباقية ما بيقت الحاجة للمقاومة والتحرير، كما أن هذا النهج ــ نهج المقاومة ــ أسسس لعلم جديد اسمه علم الأنفاق، ستنشغل لوقت طويل كل دوائر العلم العسكري ودوائر السياسة ومراكز الأبحاث في العالم لفهمه وإيجاد حلول مضادة له، ولن تقدر، لأن النفق مزيج من العِلم والقَدر الذي فرضته الإرادة الحية وضيق الحيز المكاني.
خلاصة
إذا كانت سياسة الإغلاقات والأوامر العسكرية أدت إلى الانتفاضة الأولى التي خرج من رحمها في ما بعد (أطفال الحجارة/ جيل الانتفاضة) الذي أرعب الاحتلال وأعجزه عن تحقيق نصر واضح ــ لولا تحايل السياسة ــ مع أنه لم يتسلح إلا بالحجر والمقليعة، فإن حصار غزة أخرج من رحم الأرض (جيل الأنفاق/ أطفال الهاون) المسلحين بالصواريخ وقد أحرز هذا الجيل نصره الأول فعلا.
ويل للاحتلال من جيل تربى في الأنفاق وخرج على وجه الأرض يحمل صاروخا، وويل له من جيل الأنفاق، وويل لجيل الأنفاق من كواليس السياسة والتنسيق والتطبيع والمفاوضات والمخابرات والاستخبارات، حتى ولو كانت وقائية.